المقدّمة:
في عالم الفكر الاقتصادي، برزت نظريتا كينز والنقديّين كركيزتين أَساسيَّتين لفهم ديناميكيَّات الاقتصاد الكلّي. نشأت هاتان النظريَّتان في سياقات تاريخيَّة مختلفة، لكنَّهما تشتركان في هدف مشترك:
وهي تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتعزيز النمو.
بينما دعا جون مينارد كينز إِلى تدخُّل الدولة لتحفيز الطلب الكلّي في أَوقات الأَزمات، ركَّز ميلتون فريدمان وأَتباع النقديّين على عرض النقود والسوق الحرَّة كمحرّكات للنمو.
في هذا المقال من إيكونومتريك، سنستعرض لكم الفروق بين هاتين النظريَّتين، تطبيقاتهما العمليَّة، ومتى تكون كلٌّ منهما الأَنسب، مقدّمين دروساً قيّمة للمدراء التنفيذيّين وصُنَّاع القرار.
لمحة تاريخيَّة عن النظريَّتين الأَشهر في الفكر الاقتصادي
الفكر الاقتصادي شهد تحوُّلات كبيرة خلال القرن العشرين، حيث برزت نظريَّة كينز في ثلاثينيَّات القرن الماضي كردّ فعلٍ على الكساد الكبير.
رأَى كينز أَنَّ انخفاض الطلب الكلّي هو السبب الرَّئيسي للأَزمات، ودعا إِلى تدخُّل الدولة عبر السياسة الماليَّة لتحفيز الاقتصاد.
في المقابل، ظهرت نظريَّة النقديّين، بقيادة ميلتون فريدمان، في منتصف القرن كتحدّ للكينزيَّة.
وقد ركَّز النقديُّون على عرض النقود كعامل رئيسي في تحديد التضخُّم والنمو، مُؤَكّدين على دور السوق الحرَّة. هذه السياقات التاريخيَّة تُظهر كيف تشكَّلت كلّ نظريَّة لتلبية تحدّيات عصرها.

نظريَّة كينز: الطلب الكلّي، تدخُّل الدولة، الإِنفاق العام
نظريَّة كينز تقوم على فكرة أَنَّ الطَّلب الكلّي (الاستهلاك + الاستثمار + الإِنفاق الحكومي + صافي الصادرات) هو المحرّك الأَساسي للاقتصاد.
في أَوقات الركود، ينخفض الطلب بسبب تراجع الثقة، ممَّا يُؤَدّي إِلى البطالة وتباطُؤ النمو.
اقترح كينز أَدوات مثل:
الإِنفاق العام: زيادة الإِنفاق الحكومي على المشاريع العامَّة مثل البنية التحتيَّة لخلق فرص عمل.
خفض الضرائب: لزيادة الدخل المتاح للأَفراد، ممَّا يحفّز الاستهلاك.
السياسة الماليَّة التوسُّعيَّة: لتعويض نقص الطلب الخاص.
ففي فترة الكساد الكبير، اعتمدت الولايات المتَّحدة سياسات كينزيَّة مثل برنامج “الصفقة الجديدة” لتحفيز الاقتصاد.
هذه الأَدوات تُظهر كيف يمكن لتدخُّل الدولة أَن يُعيد التوازن إِلى الاقتصاد في أَوقات الأَزمات.
اقرأ أيضاً: الاقتصاد غير الرسمي في المدن الكبرى
نظريَّة النقديّين: السوق الحرة، عرض النقود، دور التضخُّم
النقديُّون، بقيادة ميلتون فريدمان، رأَوا أَنَّ الاقتصاد يعمل بشكل أَفضل عندما يُتْرَك لقوى السوق الحرَّة.
يركّزون على عرض النقود كعامل رئيسي في تحديد مستويات الأَسعار والتضخُّم. وفقًا للنقديين، فإن زيادة عرض النقود بشكل مفرط تؤدي إلى التضخم، بينما تقليصه قد يسبب الركود.
تشمل أَدواتهم:
السياسة النقديَّة: ضبط كمّيَّة النقود عبر البنوك المركزيَّة.
تقليل تدخُّل الدولة: للسماح للسوق بتصحيح نفسه ذاتيَّاً.
التركيز على استقرار الأَسعار: لضمان بيئة اقتصاديَّة مستقرَّة.
وقد استخدمت الولايات المتَّحدة في السبعينيَّات سياسات نقديَّة للحدّ من التضخُّم المتفاقم، ممَّا يعكس تأثير أَفكار فريدمان. هذا النهج يُبرز أهمية الاستقرار طويل الأمد في إدارة الاقتصاد.
الاختلافات الرئيسيَّة: طبيعة تدخُّل الدولة، أَدوات الإصلاح، زمن التأثير
تختلف نظريَّة كينز والنقديّين في عدَّة جوانب رئيسيَّة
- تدخُّل الدولة: الكينزيَّة تدعو إِلى تدخُّل حكومي مباشر عبر السياسة الماليَّة، بينما يفضّل النقديُّون الحد الأدنى من التدخُّل، معتمدين على السياسة النقديَّة.
- أدوات الإِصلاح: يركّز كينز على الإِنفاق الحكومي وخفض الضرائب، بينما يركّز النقديُّون على ضبط عرض النقود.
- زمن التأثير: السياسات الكينزيَّة غالباً ما تكون سريعة التأثير في الأَزمات، بينما تحتاج السياسات النقديَّة إِلى وقت أَطول لتحقيق الاستقرار.
هذه الاختلافات تعكس رؤى فلسفيَّة متباينة:
الكينزيَّة ترى الاقتصاد كآلة تحتاج إِلى دفع خارجي، بينما النقديُّون يرونها نظاماً يصحّح نفسه إِذا أُتيحت له الظروف المناسبة.
التطبيق في العالم الواقعي: الكينزيَّة في الأَزمات، النقديَّة في فترات الاستقرار
في العالم الواقعي، تُستخدم السياسة الماليَّة الكينزيَّة بفعاليَّة خلال الأَزمات الاقتصاديَّة. كما حدث خلال الأَزمة المالية العالميَّة 2008، حيث اعتمدت العديد من الدول حُزَم تحفيز ماليَّة لتعزيز الطلب الكلّي وتجنُّب الانهيار الاقتصادي. في المقابل، تُظهر السياسة النقديَّة فعاليتها في فترات الاستقرار.
كما استخدمت البنوك المركزيَّة أَدوات مثل رفع أَسعار الفائدة للتحكُّم في التضخُّم خلال الثمانينيَّات. هذه التطبيقات تُبرز أَهمّيَّة اختيار السياسة المناسبة بناءً على السياق الاقتصادي.

اقرأ أيضاً: دليل المستثمر المبتدئ: معلومات أساسية عن سهم علم تداول
متى يُفَضَّل تطبيق كلّ منهما؟
إِنَّ اختيار النظريَّة المناسبة يعتمد على الظروف الاقتصاديَّة الكينزيَّة والَّتي تُفَضَّل في حالات:
- الركود الاقتصادي الشديد.
- ارتفاع معدَّلات البطالة.
- انخفاض الثقة في السوق.
فقد تمَّ استخدام حُزَم التحفيز خلال جائحة كوفيد-19 لدعم الشركات والأفراد.
أَمَّا نظريَّة النقديُّون تُفَضَّل في حالات:
- التضخُّم المرتفع.
- الحاجة إِلى استقرار الأَسعار على المدى الطويل.
- اقتصاد مستقر نسبيَّاً يحتاج إِلى تعديلات دقيقة.
وقد تمَّ تطبيقها في سياسات بنك الاحتياطي الفيدرالي في التسعينيَّات لضبط عرض النقود.
هذا التحليل يفيد المدراء التنفيذيّين فهو يُبرز أَهمّيَّة فهم السياق قبل اتّخاذ القرارات الاستراتيجيَّة، سواء في إِدارة الموارد أَو التخطيط المالي.
ختاماً:
لا توجد نظريَّة اقتصاديَّة واحدة تُعدُّ الخَيَار الأَمثل لكلّ الظروف.
نظريَّتا كينز والنقديُّون تقدّمان رُؤَى متكاملة: الأُولى تُناسب الأَزمات الَّتي تتطلَّب تدخُّلاً سريعاً لتعزيز الطلب الكلّي، بينما الثانية تُركّز على الاستقرار طويل الأَمد من خلال السياسة النقديَّة.
أَمَّا لصنَّاع القرار، فإنَِّ فهم هذه النظريَّات يُمكّنهم من اتّخاذ قرارات مستنيرة تتناسب مع التحدّيات الاقتصاديَّة.
لذا ندعوكم لدراسة السياق الاقتصادي بعناية، واختيار الأَدوات المناسبة لتحقيق التوازن بين النمو والاستقرار، سواء في إِدارة الشركات أَو صياغة السياسات العامَّة.